
غرفة مجرَّدة تماماً إلا من بياضٍ يصقل الأسرَّة، وظهيرة *ارقة في الخارج، ورجل ينتظر قَدَراً مشتبهاً بالنِّسبة إلينا على الأقل.
لم تكن الت*ذيرات التي أطلقها الجميع تعني له شيئاً، فطالما عاش *ياته بسنواتها التي تجاوزت الستين وهو لا يعبأ بأمر، ولا ينتبه لريبة آتية من الخلف، كان يصفعها بهدوء *تى دون أن ينظر إليها بطَرْفه الأشيب.
كان فسي*اً كالبهجة، مراوغاً كالزئبق، وأسمر كال*نطة، و*ياته كانت تشبهه تماماً.
أتذكَّر ملام*ه الباردة كماء الظَّهيرة المكِّيَّة الذي يطفئ ببرودته *رارة شمس تسطع بجنون.
نايلي قمامة (نشيل القمامة)
ناكنَّسُ بيتي (نكنس البيت)
ناكنَّس درجي (نكنس الدّرج)
ناسوِّي مكوى (نكوي الملابس)
يا هجَّا تعالي (يا *جّة تعالي)
كان هذا نداء السَّيدة الإفريقية التي استدرجها ذات يوم ساخن، في ظهيرة يختبئ فيها الظِّل.
أتذكَّر هذا وأنا ألم* وجهه المثخن بالألم، وساقه التي ستؤول إلى مكان آخر غير جسده.
قال الطبيب:
قرَّرنا بتر الساق.
رد ببساطة سلسة للغاية:
مشينا..
بكلِّ هذا الهدوء يلفظ كلمته *تى دون أن يطرف له جفن، لكأنَّ الساق أصب*ت جزءاً لا يعنيه كثيراً، أو ابناً عاقاً يودّ التَّخلي عنه بسهولة مطلقة، ورضاً *كيم.
أصبتُ بذهول مطبق تملَّكني *ينها، ودفعني إلى بكاء مرير وم*رق كما لو كنتُ ساقه أو ابنه العاق.
أخذت أمِّي برأسي وضمَّته إلى صدرها، وقالت له:
الساق تمشِّيها أنت يا خال، مو هي إلّلي تمشيك!
يا بنتي جيبي لي بنتي رمزيَّة قبل ما أدخل العمليّه.
أبشر يبو رمزيَّه،من عيوني.
كانت الظَّهيرة ت*دّ سكاكينها لل*و الأجساد، فيما أنا وأمِّي نستقلُّ التَّاكسي لن*ضر رمزيَّة كما طلب.
كانت رمزيَّة قريبة إلى أبيها ومستودع أسراره، باختصار شديد كانت ابنته القريبة والبعيدة في آن.
بنتي رمزيَّه: أمانتكِ لا تكفنوني إلاَّ من فلوسي.
ياااااااااااا بويه أبشر *بيبي، الله يبعد الشَّر عنك يا قلبي.
تبكي رمزيَّة بمرارة مرتفعة، فيما تضُّمها أمِّي إلى صدرها الر*ب.
ب*زم واض* يرد:
أنا قلت لكِ وبس، لا تنسِ وصيَّة أبوكِ.
وأردف قائلاً بذات القوَّة:
اشهدوا (بالِّلي سمعتوا).
كنتُ صافنًا، وكان أبو الخير يصغي لوصيَّة أخيرة ويهزُّ رأسه بالإيجاب، وكانت أمِّي تغرق في بكاء مرير للغاية.
قرر أبو الخير في الَّل*ظات الأخيرة قبل العمليَّة، مرافقة خاله في غرفة العمليات، مستغلاً بذلك قدمه ونفوذه في المستشفى.
ها هو أبو الخير يخضع للتَّعقيم ، والخال ما زال هادئاً ومتماسكاً وكأنَّ الأمر لا يخصُّه أبداً.
اقترب الأطباء، تأكَّدوا من مستوى السُّكر في الدَّم، وقرروا الدُّخول إلى غرفة العمليات.
كان الممرّ هادئاً يسوده الصَّمت، وكانت أمِّي إلى جوار رمزيَّة وأمِّها سلوى، وأنا في الطّرف القريب إلى الباب، باب غرفة العمليّات ت*ديداً، البكاء المتواصل لرمزيَّة وأمِّها وأمِّي يربكني، ويشدُّ خيوط الدَّمع بسلاسة من عينيّ، الرَّبكة صارت قيدًا واض*اً لخطانا فلم نستطع المغادرة *تى إلى المقاعد القريبة، البكاء مر*لة سامية لا يقطعها ال*ديث، ولا تبرئها المواساة، مر*لة يكون الدَّمع سيدها المطاع وخادمها الو*يد، والمناديل ذاكرة مر*لة لا تجفُّ، وإسفنجة *نين مثخن.
كانت تتسرّب إلى أنفي روائ* التعقيم المعتادة، وأنا أتخيل المشهد بعينين *مراوين.
بعد ساعة ونصف السَّاعة تقريباً، خرج الخال بلا ساق، ولفافة كبيرة أسفل ركبته اليمنى، تشير إلى موضع البتر، إلى جزء من جسده غادر دون رجعة.