اللهم صل وسلم على سيدنا و نبينا محمد وآله وصحبه اجمعين


التميز خلال 24 ساعة
 العضو الأكثر نشاطاً هذا اليوم   الموضوع النشط هذا اليوم   المشرف المميزلهذا اليوم    المشرفة المميزه 
قريبا

بقلم :

قريبا

العودة   منتديات تدلـل1 > المنتديات الادبيه > يحكى أن

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 07-15-2007, 02:57 AM
قاصد غير متواجد حالياً
لوني المفضل : Cadetblue
رقم العضوية : 6
تاريخ التسجيل : Jan 2005
فترة الأقامة : 7042 يوم
أخر زيارة : 01-01-2020
المشاركات : 4,600 [ + ]
عدد النقاط : 17054
قوة الترشيح : قاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond reputeقاصد has a reputation beyond repute
افتراضي الشعلة البيضاء



-الشعلة البيضاء


وانقضى نيسان وأنا أزور منزل فارس كرامة وألتقي بسلمى وأجلس قبالها في تلك الحديقة متأملاً محاسنها، معجباً بمواهبها، مصغياً لسكينة كآبتها، شاعراً بوجود آياد خفية تجتذبني إليها. فكل زيارة كانت تبين لي معنى جديداً من معاني جمالها وسراً علوياً من أسرار روحها حتى أصبحت أمام عينيّ كتاباً أقرأ سطوره وأستظهر آياته وأترنم بنغمته ولا أستطيع الوصول إلى نهايته.
إن المرأة التي تمنحها الآلهة جمال النفس مشفوعاً بجمال الجسد هي حقيقة ظاهرة غامضة نفهمها بالمحبة ونلمسها بالطهر، وعندما نحاول وصفها بالكلام تختفي عن بصائرنا وراء ضباب الحيرة والالتباس. وسلمى كرامة كانت جميلة النفس والجسد فكيف أصفها لمن لا يعرفها؟ هل يستطيع الجالس في ظل أجنحة الموت أن يستحضر تغريدة البلبل وهمس الوردة وتنهدة الغدير؟ أيقدر الأثير المثقل بالقيود أن يلاحق هبوط نسمات الفجر؟ ولكن أليس السكوت أصعب من الكلام؟ وهل يمنعني التهيب عن إظهار خيال من خيالات سلمى بالألفاظ الواهية إذا كنت لا أستطيع أن أرسم حقيقتها بخطوط من الذهب؟ إن الجائع السائر في الصحراء لا يأبى أكل الخبز اليابس إذا كانت السماء لا تمطره المن والسلوى.
كانت سلمى نحيلة الجسم تظهر بملابسها البيضاء الحريرية كأشعة قمر دخلت من النافذة. وكانت حركاتها بطيئة متوازنة أشبه شيء بمقاطيع الألحان الأصفهانية، وصوتها منخفضاً حلواً تقطعه التنهدات فينسكب من بين شفتيها القرمزيتين مثلما تتساقط قطرات الندى عن تيجان الزهور بمرور تموجات الهواء. ووجهها ــ ومن يا ترى يستطيع أن يصف وجه سلمى كرامة؟ بأية ألفاظ نقدر أن نصور وجهاً حزيناً هادئاً محجوباً وليس محجوباً بنقاب من الاصفرار الشفاف؟ بأية لغة نقدر أن نتكلم عن ملامح تعلن في كل دقيقة سراً من أسرار النفس الكبيرة المتألمة في داخل الجسد، وتذكر الناظرين إليها بعالم روحي بعيد عن هذا العالم؟ إن الجمال في وجه سلمى لم يكن منطبقاً على المقاييس التي وضعها البشر للجمال، بل كان غريباً كالحلم أو كالرؤيا أو كفكر علوي لا يقاس ولا يحد ولا يتسخ بريشة المصور، ولا يتجسم برخام الحفار. جمال سلمى لم يكن في شعرها الذهبي بل في هالة الطهر المحيطة به. ولم يكن في عينيها الكبيرتين بل في النور المنبعث منهما. ولا في شفتيها الورديتين بل في الحلاوة السائلة عليهما. ولا في عنقها العاجي بل في كيفية انحنائه قليلاً إلى الأمام. جمال سلمى لم يكن في كمال جسدها بل في نبالة روحها الشبيهة بشعلة بيضاء متقدة سابحة بين الأرض واللانهاية. جمال سلمى كان نوعاً من النبوغ الشعري الذي نشاهد أشباحه في القصائد السامية والرسوم والأنغام الخالدة، وأصحاب النبوغ تعساء مهما تسامت أرواحهم تظل مكتنفة بغلاف من الدموع.
وكانت سلمى كثيرة التفكير قليلة الكلام، ولكن سكوتها كان موسيقياً ينتقل بجليسها إلى مسارح الأحلام البعيدة، ويجعله أن يصغي لنبضات قلبه ويرى خيالات أفكاره وعواطفه منتصبة أمام عينيه.
أما الصفة التي كانت تعانق مزايا سلمى وتساور أخلاقها فهي الكآبة العميقة الجارحة، فالكآبة كانت وشاحاً معنوياً ترتديه فتزيد محاسن جسدها هيبة وغرابة، وتظهر أشعة نفسها من خلال خيوطه كخيوط شجرة مزهرة من وراء ضباب الصباح.
وقد أوجدت الكآبة بين روحي وروح سلمى صلة المشابهة فكان كلانا يرى في وجه الثاني ما يشعر به قلبه ويسمع صوته صدى مخبآت صدره فكأن الآلهة قد جعلت كل واحد منا نصفاً للآخر يلتصق به بالطهر فيصير إنساناً كاملاً، وينفصل عنه فيشعر بنقص موجع في روحه.
إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنيهما ــ فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها مع بعض لا تفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها، فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور؛ والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهراً وجميلاً

لجبران خليل جبرا


 توقيع : قاصد

رد مع اقتباس
 

الكلمات الدلالية (Tags)
البيضاء, الشعلة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عروض فنادق الدار البيضاء محمد الشمري - الأخبار والأعلانات المتنوعه واحداث العالم 0 01-05-2020 10:33 PM
قلوب الشكولاطة البيضاء سعودد المطبخ 0 06-26-2019 10:30 PM


الساعة الآن 03:55 PM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir

هذا الموقع يستعمل منتجات MARCO1